سورة العنكبوت - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (العنكبوت)


        


{وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)} [العنكبوت: 29/ 69/ 16- 23].
المعنى: واذكر أيها النّبي إبراهيم ودعوته، وهي كقصة نوح أيضا تمثيل وتشبيه لقريش، فلقد كان النمرود وأهل مدينته عبدة أصنام، فدعاهم إبراهيم عليه السّلام إلى توحيد الله تعالى وعبادته وتقواه، ثم نبّههم إلى ما هم عليه من الضّلال، فإن توحيد الله وترك الأصنام خير لكم في الدنيا والآخرة، إن كنتم من أهل الوعي والإدراك والعلم، تميزون به بين الخير والشّر.
وهذان دليلان على التوحيد:
الأول- إن ما تعبدون من غير الله من الأصنام، ما هي إلا أوثان، وأشياء مصنوعة من الأحجار، فلا تضرّ ولا تنفع، وإنما اختلقتم لها أسماء، فسمّيتموها آلهة، وادّعيتم أن لها شفاعة لكم عند ربّكم، وإنما هي مخلوقة أمثالكم، فأنتم تختلقون الكذب بوصفها آلهة.
والدليل الثاني- إن تلك الأوثان التي تعبدونها من غير الله، لا تستطيع أن تجلب لكم رزقا، فكيف تعبدونها؟ فاطلبوا الرزق من عند الله تعالى، لا من عند غيره من الأوثان ونحوها، واعبدوه وحده، واشكروا له على ما أنعم به عليكم من الفضل والإنعام، فإنما إليه مرجعكم يوم القيامة، ليحاسبكم على أعمالكم.
ودليل صدق رسالة إبراهيم عليه السّلام في مخاطبة قومه: وإن تكذّبوني في رسالتي، فلا تضروني أبدا، فقد كذبت الرسل أمم سابقة، وقد بلغكم ما حلّ بهم، من العذاب والانتقام، ولا يكلّف الرسول إلا بتبليغ ما أمره الله تعالى به من الرسالة، تبليغا واضحا كاملا، فاحرصوا على إسعاد أنفسكم بالإيمان بالله تعالى.
وأما دليل الأصل الثالث في عقيدة الإيمان: وهو البعث والمعاد، فهو أن تنظروا كيف بدأ الله خلق الأشياء والجمادات والإنسان، بعد أن لم تكن، وزوّد الإنسان بمفاتيح المعرفة والعلم، من السمع والبصر والفؤاد. والذي بدأ إيجاد الخلق على هذا النحو قادر على إعادته، وهو أسهل عليه، وأيسر بحسب تصوراتنا، أما بالنسبة لله تعالى فالبدء والإعادة سواء، وقد خاطبنا الله بما نعقل ونتصور، حين قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرّوم: 30/ 27].
وعلى صعيد الواقع المشاهد، سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض، فانظروا كيف بدأ الله خلق السماوات وما فيها من الكواكب الثوابت النّيرات، وكيف أوجد الأراضي وما فيها من الجبال الراسيات، ثم الله يعيدكم أحياء مرة أخرى، فإن من قدر على الخلق أول مرة، قادر على الإعادة وإنشاء النشأة الأخرى يوم القيامة، وإن الله قادر تامّ القدرة على كل شيء، ومنه البدء والإعادة.
والذي يكون بعد البعث والإعادة، إنما هو الحساب والجزاء، فإن الله يعذب من يشاء من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء، من المؤمنين فضلا منه ورحمة، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وإلى الله مصيركم ومردّكم يوم القيامة بعد الموت، مهما طالت المدة، فيحاسب كل إنسان على ما قدّم وأخّر، وحسابه قائم على الحقّ والعدل والإنصاف، لأنه المالك لكل شيء، فيسوي بين مخلوقاته.
ولستم أنتم أيها الجاحدون الكافرون، بمعجزي الله عن ملاحقتكم وتقديمكم للجزاء، سواء في الأرض والسماء، فإن الله لا يعجزه شيء، ولا يقدر أحد على الإفلات من قبضته، فقبضته السماوات والأرض وما بينهما، وهو القاهر فوق عباده، وليس لكم من غير الله ولي (نصير) يلي أموركم ويحفظكم ويرعاكم، ولا معين وناصر ينصركم، ويمنعكم من عذابه إن عذّبكم، فهل بعدئذ تظنّون أنكم بكفركم وعبادتكم غير الله من الأصنام ناجون وسالمون من الجزاء؟!
ثم توعّد إبراهيم عليه السّلام كل كافر، فإن كل الذين كفروا بدلائل وحدانية الله وقدرته وما أرسل به رسله، وكفروا بالمعاد، أولئك لا نصيب لهم من رحمة الله، بسبب كفرهم، ولهم عذاب مؤلم شديد.
موقف قوم إبراهيم من دعوته:
لا ينتظر بعد تقديم إبراهيم الخليل مختلف الأدلّة على أصول دعوته من توحيد الله، وإرسال الرّسل، وبعث العباد أن نجد جوابا مقنعا لدى القوم الذين استبدّوا واستكبروا، وبغوا وعاندوا، واعتمدوا على التهديد والوعيد، ولكن الله تعالى نجى إبراهيم من النار، فأعاد الكرة عليهم بتوبيخهم على سوء الاعتقاد وعبادة الأصنام، وتفرّق الصّف وتشتّت الأحوال يوم القيامة. ولما نجى إبراهيم من النار، آمن به ابن أخيه لوط عليه السّلام، وأنعم الله على إبراهيم بإسحاق ويعقوب، وبجعل النّبوة والكتب المنزلة في ذرّيّته، وإيتاء أجره في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى مبيّنا هذه المفاجئات.


{فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)} [العنكبوت: 29/ 24- 27].
أخبر الله تعالى عن قوم إبراهيم أنه لما بيّن لهم الحجج، وأوضح أمر الدين، لم يجدوا جوابا مقنعا، فلجئوا إلى المغالبة واستخدام القوة والبطش، وتآمروا على قتله وتحريقه بالنار، وأنفذوا أمر التّحريق، فأنجاه الله تعالى من نارهم، وجعلها عليه بردا وسلاما، إن في ذلك الإنجاء لإبراهيم من النار لدلالة على وجود الله الحاضر، وقدرته النافذة، لقوم يصدّقون بالله إذا ظهرت لهم الأدلة والبراهين.
واستأنف إبراهيم عليه السّلام دعوته لتوحيد الله وهجر عبادة الأصنام، حتى بعد إلقائه في النار، فقال لقومه موبّخا ومقرّعا: إنما اتّخذتم هذه الأصنام لتجتمعوا على عبادتها، وتقيموا تجمّعا وديّا فيما بينكم في دار الدنيا، كاتّفاق أهل الأهواء على الباطل والضلال، ثم يقع التنازع والتّباعد بينكم في الآخرة، فتنقلب صداقة الدنيا إلى عداوة وتباغض، فيتبرأ القادة من الأتباع، ويلعن الأتباع القادة، ثم يكون مصير الفريقين إلى النار، ولن يجدوا في الآخرة ناصرا ينصرهم، ولا منقذا ينقذهم من عذاب الله تعالى، فالكل يستوون في استحقاق العقاب، لأن توادّ الكافرين كان مجافيا للحق والخير والتقوى، قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزّخرف: 43/ 67].
هذا مع العلم بأن الوثن: ما اتّخذ من جصّ أو حجر، والصّنم: ما كان من معدن.
وفي الزاوية الأخرى في مواجهة الكفر، نجد أملا لا ينقطع، ونورا لا يخبو، فقد آمن بدعوة إبراهيم ابن أخيه لوط عليهما السّلام، وهاجر هو ولوط، إلى بلاد الشام من أرض بابل، وقال إبراهيم عليه السّلام: إني مهاجر من دياركم، متّجه إلى جهة أمرني بها ربّي، فهاجر من سواد العراق إلى حرّان، ثم اتّجه إلى ديار الشام، فأقام إبراهيم في فلسطين في بلدة الخليل، ونزل لوط بلدة سدوم.
وسبب هذه الهجرة: أن الله سينتقم من عبدة الأوثان، فهو القوي الغالب القاهر في ملكه، الذي يمنع أصفياءه من الأعداء، وينصرهم عليهم، الحكيم في تدبير شؤون خلقه، فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح والرشاد والخير. وهاتان الصفتان البليغتان {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تقتضيان استحقاق التوكّل على الله.
ومكافاة لإبراهيم على جهاده في تبليغ دعوته، وإبطال الوثنية، أنعم الله عليه بعد ترك قومه الوثنيين بنعم ثلاث:
الأولى- أن الله تعالى وهب إبراهيم في حال الكبر إسحاق بعد إسماعيل الذّبيح، وكذا يعقوب بن إسحاق نافلة وفضلا، فقد بشّر الله إبراهيم بإسحاق، ثم بشّر بيعقوب من بعده، كما جاء في آية أخرى: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً} [الأنبياء: 21/ 72].
والنعمة الثانية- هي جعل النبوة وكتب التوراة والزبور والإنجيل والقرآن، في ذرّية إبراهيم الخليل عليه السّلام، فكانت الأنبياء كلهم بعد إبراهيم من ذرّيّته، ولم يوجد بعده نبي إلا من سلالته، وكان إنزال الكتب السماوية على هؤلاء الأنبياء الذين هم من ذرّية إبراهيم، وهم: موسى وعيسى وداود ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم.
والنعمة الثالثة- إيتاء إبراهيم عليه السّلام أجره في حياته الدنيوية بحيث أدرك ذلك وسرّ به، والأجر الذي آتاه الله تعالى: هو السّلامة من النار، ومن الملك الجائر، والعمل الصالح، والثناء الحسن، وأن كل أمة تحبّه وتتولاه، قال عكرمة:
أهل الملل كلها تدعيه وتقول: هو منّا.
ثم أخبر الله عنه: أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضوان الله تعالى، وفازوا برحمته وكرامته العليا. فإن إبراهيم عليه السّلام يحشر في الآخرة في زمرة الكاملين في الصلاح، الذين لهم الدرجات العليا، والمكانة الرفيعة الأسمى، وكان بهذا قد جمع الله له بين سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
قصة لوط عليه السّلام:
اتّجه لوط عليه السّلام بعد إيمانه وهجرته مع إبراهيم من العراق إلى بلدة سدوم في غور الأردن، بأمر الله إياه، من أجل دعوة أهلها إلى توحيد الله، وترك الفواحش، ومحاربة الفساد، وقطع الطريق على المارّة، وإتيان المنكر، وكان في دعوته جريئا قويا، مجاهرا صامدا، لا يفتأ يحذّر وينذر، ويوجّه ويصلح، ولكن القوم الفاسقين غلب عليهم حبّ الفاحشة والمنكر، فلم يستجيبوا لدعوته، وقاوموه وحاولوا طرده، وإبعاده من ديارهم، علما بأن لوطا عليه السّلام ليس من هؤلاء القوم، قال الله تعالى واصفا دعوة لوط عليه السّلام:


{وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)} [العنكبوت: 29/ 28- 35].
المعنى: واذكر أيها النّبي لوطا وقصّته مع قومه، حين أرسله الله إلى أهل قرية (سدوم) فأنكر عليهم فعلهم، وقال لهم محذّرا ومنذرا: أتأتون الفاحشة، ما سبقكم بها أحد قبلكم من الناس؟ والفاحشة: إتيان الرجال في الأدبار، وهي معصية ابتدعها قوم لوط.
ثم أكّد لوط الإنكار على جميع أفعالهم القبيحة وهي:
- كيف تأتون الذكران بشهوة من دون النساء؟ فهذا شذوذ في الطبع ودمار لكم.
- ولم تقطعون الطريق على المارّة، وتتعرّضون لهم بالقتل وأخذ المال والإكراه على الفاحشة؟
- ولماذا ترتكبون في ناديكم أو مجلسكم العام والخاص ما لا يليق بكم من الأقوال والأفعال، من صبغ الأصابع بالحناء، والصفير، وخذف الحصا، ولعب الحمام، والتّضارط، ونبذ الحياء في كل أموركم.
فلما صارحهم لوط ونبّههم على ترك هذه القبائح، رجعوا إلى التكذيب واللجاج والعناد، وقالوا: عجّل علينا العذاب الذي توعدنا به إن كنت صادقا فيما تهددنا به، فإن ذلك لا يكون، ولا تقدر عليه، وهم لم يقولوا هذا إلّا وهم مصمّمون على اعتقاد كذبه.
فقال لوط داعيا على هؤلاء القوم المفسدين مستنصرا بربّه: يا ربّ، انصرني على هؤلاء القوم المفسدين في الأرض، بابتداع الفاحشة. ولم يصدر منه هذا الدعاء إلا بعد يأسه من صلاحهم، فبعث الله عليهم ملائكة لعذابهم.
ولما جاءت الملائكة رسل العذاب، مرّوا على إبراهيم عليه السّلام في هيئة أضياف، فبشّروه بولد صالح من امرأته (سارّة) وهو إسحاق ومن ورائه يعقوب، أي حفيده، ثم أخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط عليه السّلام، لأنهم قوم ظلموا أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم رسولهم، وتماديهم في الضلال والفساد. ولفظ البشرى في هذه الآية تتضمن أمر إسحاق، ونصرة لوط عليهما السّلام.
فلما أخبروا إبراهيم بإهلاك قرى قوم لوط على ظلمهم، أشفق إبراهيم عليه السّلام على لوط عليه السّلام، فسأل عن مصير لوط وهو رسول، وغير ظالم، فقالت الملائكة الرسل: نحن أعلم منك بمن في البلد من المؤمنين والكافرين، وإنا لننجي لوطا وأهله، وأتباعه المؤمنين به من الهلاك إلّا امرأته، فهي من الهالكين الباقين في العذاب.
ولما جاءت الملائكة إلى لوط عليه السّلام على صورة بشر حسان الوجوه، اغتم بأمرهم، وخاف عليهم من فساد قومه، وضاق ذرعا بهم، أي قصرت طاقته أو قدرته، حفاظا عليهم وحياء منهم، فقالوا له مطمئنين: لا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك الأخباث، وإنا منجّوك وأتباعك المؤمنين من العذاب إلّا امرأتك، فهي من الباقين في العذاب. وصفة هذا العذاب: أننا سننزل على أهل بلاد سدوم عذابا شديدا من السماء، بسبب فسقهم وعصيانهم، وكان العذاب زلزالا خسف بهم الأرض، وقلب ديارهم عاليها سافلها.
ولقد تركنا من البلدة بعض آثار منازلهم الخربة أو بعض أخبارهم آية: علامة ظاهرة واضحة، وعبرة لقوم يتدبرون الأمور بعقولهم الرشيدة، ويتبصرون بمصائر المجرمين الذين كذبوا رسولهم.
قصص أقوام مدين وعاد وثمود وفرعون:
استبدّ الانحراف والفساد بأقوام سابقين، فانحرفوا عن عبادة الله تعالى وأنكروا الآخرة، وعاثوا في الأرض فسادا، وكذبوا رسلهم، وهم قبائل مدين وعاد وثمود، وأشخاص قارون وفرعون وهامان وأتباعهم، فاستحقوا بمقتضى قانون العدالة وتطهير الأرض من مفاسدهم ألوانا تتناسب مع جرائمهم، إما بالرّجفة أي الزّلزلة، وإما بالرّيح الحاصب، وإما بالصيحة: الصرخة الشديدة المدمرة، وإما بالخسف أو التدمير، وإما بالإغراق، وغير ذلك، مما استحقوه بسبب ظلمهم وتجاوز الحدّ بالبغي والعناد، وهذا ما دوّنه القرآن الكريم عبرة لقريش وأمثالهم، فقال الله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5